آراء ومقالات

طه داؤود يكتب :الأزمة السودانية: ضوء في آخر النفق

الخرطوم / أفريكا نيوز 24

حزينة وقاتمة هي الصور والمقاطع والتقارير التي تبثها على مدار الساعة وكالات الأنباء والوسائط من داخل السودان على مدى ما يقرب من سبعة أشهر منذ اندلاع حرب الإفناء التي تسبّب في انفجارها الاختلاف والخلاف بين جنرالي انقلاب اكتوبر ٢٠٢١م.

اتفق الفريق عبدالفتاح البرهان والفريق حميدتي في ظلام الليل على مصادرة حق الامة السودانية في تحديد من يحكمها فنفذا إنقلابهما المشئوم الذي كان يحمل معه بذور فشله منذ البداية لأسباب عديدة، منها:

ا/ عدم منطقية مبررات الانقلاب.

٢/ الإدانة الواسعة لانقلاب اكتوبر ٢٠٢١ داخليا وخارجياً.

دبّ الخلاف بين الرجلين، وانعدمت الثقة بينهما وازداد احساس كل منهما بغدر الآخر، فقررا تصفية الخلاف بالبندقية، وهو خلاف لن ينتهي، حسب تقديرهما، إلا بالهزيمة والاستسلام لأحد الطرفين.

الآن وبعد مرور أكثر من نصف عام من القصف نجد أن القتل والنهب كان من نصيب الشعب ووممتلكات الشعب وأحلام الشعب، بينما بقي الجنرالان على قيد الحياة لمواصلة حملة العقاب الجماعي للشعب الذي تجرأ وهتف: (العسكر للثكنات والجنجويد ينحل).

خلال هذه الشهور الدامية امتد نطاق الحرب، فسقطت مدن دارفور الحبيبة، دارفور التي كانت الحافز والدافع والأيقونة لثورة ديسمبر المجيدة، سقطت مدنها في يد التمرد، سقطت نيالا وسقطت زالنجي وسقطت الجنينة، وتعيش مدينة الفاشر هذه الأيام تحت الحصار.

نعم سقطت المدن ولكن لم تسقط إرادة الشعب ولن تسقط، مهما طال ليل القصف والتشريد والمعاناة.

هذا الشعب الذي صبر على دكتاتورية الجنرال عبود ودكتاتوربة الجنرال نميري ودكتاتوربة الجنرال عمر البشير، قبل أن يرمي بهم وبسدنتهم جميعاً الى مزبلة التاريخ، قادرٌ على استعادة ثورته المسروقة وقادرٌ على انتزاع حقوقه في الحكم الرشيد.

سقوط المدن والحاميات لا يعني التسليم والاستسلام لمشروع المتمردين، حتى ولو سقطت الخرطوم وبورتسودان والأبيض وكسلا وشندي في يد الدعم السريع فإن ذلك لن يزيد الشعب إلا إصراراً وعزيمة على استعادة الحقوق والحرية والكرامة.

سقطت باريس في الحرب العالمية الثانية في يد قوات ألمانيا النازية، ولكنها انتصرت لاحقاً، واستعادت لقبها عاصمةً للنور والثقافة والمتاحف، وعادت جامعة السوربون بكامل الهيبة والزخم حيث معاهد الفلسفة والطب والفنون، ولم يكن ذلك الانتصار ممكناً لولا الإصرار والتلاحم بين طبقات المجتمع الفرنسي.

أيضاً سقطت العاصمة الألمانية برلين في نهاية الحرب الثانية ودُكّت بآلاف الأطنان من القنابل والصواريخ وشُطِرت المدينة إلى نصفين يفصل بينهما حائط برلين، ومع ذلك لم ييأس الشعب الألماني، وعاد بعد ما يقرب من خمسين عاماً ليزيل جدار برلين ويستعيد وحدته ووحدة عاصمته التاريخية ويستعيد الهيبة والهوية والرايخستاغ.

الشعب السوداني لا يقل عزيمة عن الشعوب الأخرى التي تحررت من بطش الحكام. ولن يكون هناك سلام شامل إلا بإعادة الأمور إلى نصابها الصحيح وتسليم مقاليد الحكم للمدنيين.

لا بدّ لدعاة الحرب أن يدركوا أن السلام (أصل) والحرب (إستثناء) وأن شعبنا قالها بصوت مسموع أثناء حراك ثورة ديسمبر العظيمة بأن غايته البناء لا الهدم ومطلبه التعمير لا التدمير.

على دعاة الحرب إرجاع البصر مرة ومرتين وثلاث ليروا حصاد أيديهم في هذا الدمار وفي هذا الإنهيار وفي هذا الضياع وفي هذا الموت الذي عمّ القرى الحضر.

مطلوب من أصحاب العقول أن يدركوا أن النصر الحقيقي هو في حقن الدماء لا في سفكها.

النصر الحقيقي يتحقق حينما نتغلب على هوى النفس ونزواتها في الانتقام من الآخر المختلف في الرأي والسحنة والعقيدة والمذهب، وهو اختلاف أزلي تؤكده آيات الذكر الحكيم ( ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين).

يجب أن يعمل الجميع على منع أي تقسيم جديد للبلاد بعد أن ذهب ثلث البلاد إلى غير رجعة بعد استفتاء تقرير المصير للاخوة الجنوبيين في العام ٢٠١١م.

ولا لوم على الاخوة في جنوب السودان في اختيارهم الانفصال والاستقلال والحرية بدلاً من الاستبداد والقمع ومرارات الحروب التي عاشوها على مدى أكثر من خمسين عاماً لا لشيئ إلا لرغبتهم في البقاء تحت مظلة الدولة السودانية الواحدة مع الاحتفاظ بالخصوصية والهوية، وكانوا يتوقعون من الدولة السودانية أن تقف على مسافة واحدة من الجميع عندما يتعلق الأمر بعقائد الناس وأعرافهم ولغاتهم، إلا أنّ النظرة هنا كانت مختلفة باستمرار لدى مركز القرار في الخرطوم، وتساوت في ذلك كل الحكومات العسكرية والمدنية التي جلست على كرسي الحكم، حيث كان الاتجاه السائد هو وجوب رضوخ الأقلية لهيمنة الأغلبية وطغيانها طوعاً أو كرهاً ولو اقتضى ذلك حرباً شعواء باسم الشريعة والسيادة والوحدة الوطنية، لينتهي كل ذلك بتقسيم البلاد وضياع الوحدة والسيادة ودغمسة الشريعة.

واجب الساعة أن يسعى الوطنيون وأصحاب العقول من كل الأطراف إلى تدارك ما يمكن تداركه، يجب على العقلاء إنزال أصحاب الأهواء ودعاة (الحرب الشاملة) واستخدام (القوة المميتة) مِن على المنابر، بعد أن ثبت بالدليل والبرهان وسقوط المدن والحاميات فشل هذا التوجّه وعدم جدواه إلا في إطالة أمد الحرب.

وبعد أن أخفقت كل محاولات التسوية والمصالحة الداخلية خلال الاشهر الماضية، اتجهت الأنظار إلى الخارج بحثاً عن حل لهذه الحرب التي تدور رحاها في باحات مدارس الخرطوم ومشافيها وفي جموع سكان مدينة الجنينة الفارين من الموت في عقر دارهم إلى الموت رمياً بالرصاص قبل العبور إلى تشاد المجاورة.

فشاهدنا لقاءات القاهرة وأسمرا واديس ابابا وانجمينا وجوبا، إلا أنّ مخرجاتها كانت دون الطموح والتطلعات.

وبالتزامن مع كل ما ذُكر من جهود لتسوية الأزمة، جاءت المبادرة السعودية الشاملة لسلام السودان عبر منبر جدة لتوفِّر الآلية الفعالة للخروج من هذا المأزق.

الحكومة السعودية، وهي تلقي بثقلها الاقليمي والدولي لإنجاح المفاوضات وإنقاذ السودان من الضياع، إنما تعبِّر عن عميق محبتها ومساندتها للشعب السوداني وهي محبة حقيقية معززة بالتاريخ والجوار الجغرافي وقوافل الحجيج والعمّار.

اعتقد ان المبادرة السعودية التي أكّدت على وجوب وقف العدائيات ووقف اطلاق النار كمرحلة أولى، هي المخرج من هذا المأزق وهي طوق النجاة لكل الأطراف..

المبادرة السعودية هي سفينة الإنقاذ التي يجب أن يصعد على متنها قادة الجيش وقادة التمرد معاً قبل ان يدركهم الغرق.

هناك ضوء في آخر النفق يجب أن يراه الجميع، وخصوصاً الأطراف المتحاربة. هذا الضوء هو منبر جدة بالمملكة العربية السعودية.

 

التحية،،

 

7/11/2023

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى